أبو القاسم سعد الله: المؤرخ الموسوعي والضمير التاريخي للجزائر

يُعتبر أبو القاسم سعد الله أحد أبرز أعلام الفكر والتاريخ في الجزائر والعالم العربي، حيث أرسى دعائم مدرسة جديدة في الكتابة التاريخية تستند إلى التوثيق والتحليل النقدي والعمق المعرفي. إن سيرة هذا المفكر المتميز تمثل مرآة لمرحلة حاسمة من التاريخ الجزائري، وتُجسّد مسيرة علمية وأدبية اتسمت بالثراء الفكري والالتزام الوطني. تميزت كتاباته بالدقة والصرامة الأكاديمية، وسعت إلى استعادة الذاكرة الوطنية من طمس الاستعمار الفرنسي، وإعادة الاعتبار للفكر الجزائري المطمور.

ولد أبو القاسم سعد الله في بيئة متواضعة، لكنه تجاوز كل الحواجز ليصبح أحد أركان المعرفة في الجزائر المستقلة، مستعيناً بإرادة فولاذية وشغف لا يهدأ بالعلم والبحث. أهدى حياته للكتابة والتأريخ، وكان شاهداً وفاعلاً في لحظات مفصلية من التاريخ المعاصر، ما جعل اسمه مرادفاً للموضوعية والوفاء للحقائق التاريخية مهما كانت قاسية.

النشأة والتكوين العلمي

ولد أبو القاسم سعد الله سنة 1930 في قمار، إحدى قرى ولاية وادي سوف جنوب شرق الجزائر، وسط عائلة متدينة ذات اهتمام ديني وعلمي. تلقى تعليمه الأول في الكتاتيب القرآنية، ثم واصل دراسته في معاهد الزيتونة في تونس، حيث تميز منذ سنواته الأولى بنبوغه وميوله للأدب والتاريخ.

في خمسينات القرن العشرين، اتجه إلى القاهرة، ثم إلى الولايات المتحدة، حيث حصل على الدكتوراه من جامعة مينيسوتا عام 1965. كان موضوع أطروحته حول “الحركة الوطنية الجزائرية”، وقد اعتمد فيها على مصادر ووثائق لم تكن متاحة من قبل للكثير من الباحثين. هذه الأطروحة كانت بداية لمسيرة علمية طويلة امتدت لعقود، أسس خلالها لمدرسة جزائرية في التأريخ العلمي الموضوعي.

مسيرته الأكاديمية ودوره في الجامعة الجزائرية

بعد الاستقلال، عاد سعد الله إلى الجزائر حيث التحق بالجامعة الجزائرية أستاذاً وباحثاً، وساهم في تأطير أجيال من الطلبة والأساتذة. وقد شكلت أعماله مرجعية رئيسية في الدراسات التاريخية، خصوصاً ما يتعلق بالحركة الوطنية، والتاريخ الثقافي، والهوية الجزائرية.

لم يكن مجرد أكاديمي تقليدي، بل كان مناضلاً بالكلمة، حرّك سواكن العقل الجمعي الجزائري وأرّخ لمجتمع مَسَخه الاستعمار. درّس بجامعات الجزائر، ودرّب نخبة من الباحثين الذين صاروا لاحقاً أعلاماً في اختصاصاتهم، ملتزماً بمعايير البحث العلمي الرصين.

أبو القاسم سعد الله والمؤرخون الجزائريون

يُعدّ سعد الله من أوائل المؤرخين الجزائريين الذين نادوا بضرورة التخلص من “الهيمنة التاريخية الفرنسية”، التي فرضت سرديات مشوهة حول تاريخ الجزائر. ففي مقابل سرديات الاستعمار التي أنقصت من قيمة المقاومة الوطنية، ووصفت الجزائر بأنها “أرض بلا شعب”، سعى سعد الله إلى إعادة تشكيل وعي تاريخي وطني مؤسس على المصادر المحلية والرواية الجزائرية.

تميزت كتاباته بالعمق التحليلي والمنهجية الصارمة، وجمعت بين التوثيق والمقاربة النقدية، حيث لم يكن يكتفي بجمع الوثائق بل كان يعيد قراءتها وتفكيك دلالاتها في ضوء السياق التاريخي. وهو ما جعله في طليعة المفكرين الذين سعوا لتحرير التاريخ من التوظيف السياسي والأيديولوجي.

مؤلفاته الكبرى وإرثه العلمي

بلغ إنتاج أبو القاسم سعد الله أكثر من ثلاثين مؤلفاً، تتنوع بين التاريخ والسياسة والأدب والفكر الإسلامي. من بين أبرز مؤلفاته:

• تاريخ الجزائر الثقافي (في عدة مجلدات): يُعد هذا العمل موسوعة شاملة للتاريخ الثقافي في الجزائر من العهد الإسلامي إلى العصر الحديث، حيث تطرّق إلى المدارس، والزوايا، والصحف، والكتّاب، والعلماء، والحركات الفكرية.

• الحركة الوطنية الجزائرية: وهو من أوائل الأعمال التي كتبت بلغة علمية حديثة عن تطور الحركة الوطنية، متناولاً نشأتها وتياراتها وأزماتها وتفاعلاتها مع محيطها.

• أبحاث وآراء في التاريخ والثقافة: سلسلة من المقالات والدراسات التي تضيء قضايا فكرية وتاريخية مهمة، وتشكل مادة مرجعية للدارسين.

• من وثائق الثورة الجزائرية: اشتغل في هذا الكتاب على تحليل الوثائق الرسمية والثورية للثورة الجزائرية، محاولاً من خلالها بناء تصور علمي لمسارها وتطورها.

• الزيتونة والثورة الجزائرية: يدرس هذا المؤلف الدور الذي لعبته جامعة الزيتونة في تخريج النخب الوطنية الجزائرية التي ساهمت في المقاومة والثورة.

جدول بأبرز مؤلفاته

دفاعه عن الهوية الوطنية ومقاومته للاستلاب الثقافي

أولى أبو القاسم سعد الله أهمية قصوى لمسألة الهوية الوطنية، وكان من المفكرين الذين تصدوا للتيارات التي سعت إلى مسخ الشخصية الجزائرية. رفض كل أشكال التغريب، كما انتقد بشدة سياسات التعليم والثقافة التي تتجاهل الإرث الثقافي العربي الإسلامي في الجزائر.

كما دعا إلى إعادة قراءة التراث قراءة نقدية، لا استسلامية ولا عدائية، معتبراً أن المستقبل لا يُبنى دون فهم عميق للجذور. وقد جعل من مؤلفاته فضاءً للتفكير الجاد في قضايا اللغة، والانتماء، والسيادة الثقافية، وهي إشكاليات ما زالت تشغل المشهد الثقافي إلى اليوم.

نقده للمؤسسة الرسمية

لم يكن سعد الله في وفاق دائم مع السلطة السياسية أو المؤسسات الرسمية، إذ كان يرى أن هناك تقصيراً في دعم البحث العلمي، وإهمالاً للذاكرة الوطنية. وقد عبّر عن ذلك في أكثر من مناسبة، بأسلوب علمي مسؤول، نابع من حرصه على مستقبل الجزائر الثقافي والتعليمي.

وقد تعرّض بسبب مواقفه الناقدة لبعض التهميش، لكنه لم يتوقف عن الإنتاج والكتابة، محتفظاً باستقلاله الفكري، وإيمانه العميق برسالة المؤرخ في خدمة مجتمعه، بعيداً عن الحسابات الضيقة.

تأثيره في الوعي العربي

تجاوز تأثير أبو القاسم سعد الله حدود الجزائر، حيث تُرجمت بعض أعماله إلى اللغة الإنجليزية، وتُدرس أعماله في عدد من الجامعات العربية، خاصة في موضوعات تتعلق بالاستعمار والمقاومة، والتاريخ الثقافي للمنطقة المغاربية.

وكان مشاركاً فعالاً في المؤتمرات العلمية العربية والدولية، حيث قدّم أوراقاً بحثية رفيعة المستوى، وترك بصمة في كل ملتقى شارك فيه، سواء من خلال محتوى أطروحاته أو عبر مداخلاته التي تجمع بين العُمق والوضوح.

رحيله والإرث الذي خلّفه

توفي أبو القاسم سعد الله يوم 14 ديسمبر 2013، بعد صراع مع المرض، لكنه ترك إرثاً فكرياً لا يقدّر بثمن. ولا تزال مؤلفاته تُطبع وتُدرّس، ويُستشهد بها في الأبحاث الجامعية، وتُعد مرجعاً لا غنى عنه لفهم التاريخ الجزائري الحديث.

وقد نُظمّت بعد وفاته ندوات وملتقيات لتكريمه، وأطلقت بعض الجامعات اسمه على قاعات ومدرجات علمية. كما أن الباحثين يستمرون في دراسة وتحليل أعماله، في محاولة لفهم أعمق لطريقته في الكتابة التاريخية ومشروعه الفكري.

الخاتمة

أبو القاسم سعد الله لم يكن مجرد مؤرخ، بل كان ضميراً يقظاً للذاكرة الوطنية الجزائرية. جمع بين المعرفة الموسوعية، والجرأة الفكرية، والالتزام الوطني. مثلت كتبه ومقالاته مرآة صادقة للتحولات التي عرفها المجتمع الجزائري، ومفتاحاً لفهم تاريخه بعيداً عن الأساطير والتزوير.

لقد ساهم في بناء وعي تاريخي جزائري حديث، وترك بصمته على مسار التأريخ العربي ككل. وسيظل، دون شك، أحد أعمدة الفكر الحر في الجزائر المعاصرة، ورمزاً للمثقف العضوي الذي جعل من القلم أداة مقاومة ومن المعرفة طريقاً للحرية.

المراجع:

1. سعد الله، أبو القاسم. تاريخ الجزائر الثقافي. الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1981–1996.

2. جاب الله، عمار. قراءات في فكر أبو القاسم سعد الله. الجزائر: دار الهدى، 2015.